عقوبات أميركية على مقررة أممية- تهديد لاستقلالية حقوق الإنسان؟

المؤلف: د. محمود الحنفي08.25.2025
عقوبات أميركية على مقررة أممية- تهديد لاستقلالية حقوق الإنسان؟

في خطوة مدوية تُزلزل أركان الصرح الدولي لحقوق الإنسان، صعّدت الولايات المتحدة من لهجتها تجاه منظومة حقوق الإنسان الأممية، مُوجهةً ضربة قاصمة لاستقلاليتها، وذلك بفرض عقوبات مباشرة على المقررة الخاصة للأمم المتحدة، الحقوقية القديرة فرانشيسكا ألبانيزي، على خلفية تقاريرها الجريئة التي اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب جرائم ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية في قطاع غزة المحاصر.

لم يعد الأمر مجرد خلاف عابر في أروقة الدبلوماسية، بل تحول إلى صِدام قانوني وسياسي عنيف يهدد حياد ومصداقية الأمم المتحدة برمتها. ففي اللحظة التي تصبح فيها مهمة حقوقية أممية مُثقلة بالعقوبات والقيود على حرية التنقل والسفر، نكون قد وصلنا إلى مفترق طرق خطير، يُعيد صياغة حدود مساءلة الدول الكبرى في عالمنا المعاصر.

في هذا المقال، نسبر أغوار هذا التطور غير المسبوق، ونستجلي الأسس القانونية التي تم تجاهلها وانتهاكها، ونستكشف الرسائل السياسية الخفية التي تختبئ وراء ستار العقوبات. سنعرض قضية ألبانيزي كنموذج صارخ للصراع المحتدم بين الضمير الحقوقي الحي وسلطة القوة الغاشمة، ونقترح في الوقت ذاته سُبلًا فعّالة لحماية منظومة الأمم المتحدة من هذا النوع من التهديدات الخبيثة والمستترة.

لماذا فرانشيسكا تحديدًا؟

وقع الاختيار على فرانشيسكا ألبانيزي لتكون هدفًا للعقوبات، لأنها تجرأت على تخطي الخطوط الحمراء بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك من خلال تقاريرها الواضحة والصريحة التي اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وطالبت بتقديم قادتها إلى العدالة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

علاوة على ذلك، قامت ألبانيزي بتوجيه الاتهام لأكثر من ستين شركة، من بينها شركات أمريكية عملاقة، بالتربح من العدوان الإسرائيلي والمساهمة فيه بشكل مباشر، وهو الأمر الذي اعتبرته واشنطن تهديدًا مباشرًا لمصالحها السياسية والاقتصادية الحيوية.

وقد فُرضت العقوبات الأمريكية في شهر يوليو/تموز من عام 2025، بموجب أمر تنفيذي يسمح بمعاقبة كل من يدعم الجهود القانونية الرامية إلى مقاضاة الولايات المتحدة أو إسرائيل في المحافل الدولية، لتُصبح ألبانيزي بذلك أول مقررة أممية يتم إدراجها رسميًا في قوائم العقوبات المحظورة.

وعلى الرغم من هذه الحملة الشرسة، واجهت ألبانيزي القرار بثبات وشجاعة، وأصرت على مواصلة مهمتها الحقوقية النبيلة، مؤكدة أن الضغوط لن تثنيها عن قول الحق وكشف الحقيقة. وقد أثار هذا الاستهداف ردود فعل دولية وحقوقية واسعة النطاق وغاضبة، واعتُبر تهديدًا خطيرًا لاستقلالية نظام المقررين الخاصين، ولسيادة القانون الدولي، وحق الضحايا في تحقيق العدالة المنشودة.

ردود الفعل الأممية والحقوقية: إجماع أخلاقي في مواجهة غياب أدوات الردع الفعالة

أثارت العقوبات الأمريكية المفروضة على فرانشيسكا ألبانيزي موجة واسعة من ردود الفعل المنددة؛ حيث أعرب مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان عن "قلقه البالغ"، مؤكدًا أن هذه العقوبات تمس بشكل خطير استقلالية منظومة المقررين الأمميين.

كما عبّر مجلس حقوق الإنسان عن رفضه القاطع للمساس بخبرائه، داعيًا إلى احترام حصاناتهم وامتيازاتهم. أما منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، فقد وصفتا هذه الخطوة بأنها "سابقة خطيرة" تهدف إلى إسكات الأصوات الحقوقية المنتقدة والمدافعة عن حقوق الإنسان. وأكد المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة أن هذه العقوبات "غير مقبولة على الإطلاق"، وتمثل تهديدًا جوهريًا لعمل المنظومة الحقوقية.

تعكس هذه المواقف إجماعًا دوليًا وأخلاقيًا راسخًا على رفض استهداف المقررين الخاصين، ولكنها تبقى للأسف حبيسة الإدانة الرمزية، وتفتقر إلى الأدوات التنفيذية التي تُلزم الدولة المعتدية بالتراجع عن قرارها. وعلى الرغم من أهميتها المعنوية، لا تملك الأمم المتحدة أو منظماتها الحقوقية وسائل قسرية لإلغاء العقوبات، مما يجعل الحماية الفعلية للمقررين مرهونة بتكثيف الضغط السياسي والإعلامي على الدولة المخالفة.

العقوبات المفروضة على مقرري الأمم المتحدة: الطبيعة والتداعيات القانونية

مقررو الأمم المتحدة الخاصون هم مجموعة من الخبراء المستقلين الذين يتم تعيينهم من قبل منظمة الأمم المتحدة – عادةً عبر مجلس حقوق الإنسان – لتولي ولايات محددة تتعلق برصد حالة حقوق الإنسان في بلد معين أو بشأن قضية موضوعية محددة.

لا يُعتبر المقررون موظفين تقليديين لدى الأمم المتحدة ولا يتلقون تعليماتهم أو توجيهاتهم من أي دولة؛ بل يقومون بعملهم بصفة تطوعية ومستقلة تمامًا، وذلك لضمان تحقيق الموضوعية والحياد في عملهم.

وعلى الرغم من استقلاليتهم، فإنهم يعملون تحت مظلة الأمم المتحدة ويتمتعون بدعمها الأدبي والقانوني الكامل. ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن آراء المقررين الخاصين لا تعبر بالضرورة عن رأي الأمم المتحدة كمنظمة، بل تعكس اجتهاداتهم الشخصية المبنية على أسس متينة من المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

تقارير المقررين وتوصياتهم لا تملك قوة إلزام قانونية مباشرة، ولكنها تكتسب أهمية معنوية وأخلاقية كبيرة، حيث تسلط الضوء على ممارسات الدول وتوجه أنظار المجتمع الدولي إلى الانتهاكات أو القضايا المثارة.

إن فرض عقوبات على مقرري الأمم المتحدة يعني أن تقوم دولة ما باتخاذ إجراءات عقابية ضد شخص يشغل منصب المقرر الخاص، وذلك بسبب قيامه بعمله ضمن ولايته الأممية المحددة.

عادةً ما تتخذ العقوبات شكل إدراج اسم المقرر على قوائم سوداء وطنية، وما يترتب على ذلك من تجميد أصول مالية – إن وجدت – وحظر السفر إلى تلك الدولة، وربما أيضًا منع المواطنين والشركات من التعامل معه بأي شكل من الأشكال.

هذه الأدوات غالبًا ما تستخدمها الدول ضد منتهكي حقوق الإنسان أو خصومها السياسيين؛ غير أن استخدامها ضد خبير حقوقي تابع للأمم المتحدة يمثل خرقًا صارخًا للأعراف الدبلوماسية والقانونية المستقرة.

فعلى المستوى القانوني، يتمتع مقررو الأمم المتحدة بحصانات وامتيازات تهدف إلى حمايتهم من أية مضايقات أو تبعات قانونية قد تنجم عن قيامهم بمهامهم.

اتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة لعام 1946 تنص صراحةً على منح الخبراء الموفدين في مهام أممية ما يلزم من حصانة لضمان استقلالهم، بما في ذلك الحصانة من أي شكل من أشكال الإجراءات القانونية أو المضايقات؛ بسبب ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات أو أفعال أثناء تأدية مهامهم.

وبناءً عليه، فإن فرض عقوبة على مقرر خاص بسبب تقرير رفعه أو تصريح أدلى به يُعد مساسًا مباشرًا بتلك الحصانة القضائية التامة المكفولة له، ويثير تساؤلات جدية حول مدى احترام الدولة المعنية لالتزاماتها الدولية.

الدلالة القانونية لمثل هذا الإجراء خطيرة ومتعددة الأوجه. فمن جهة، يعني ذلك أن الدولة الفارضة للعقوبات لا تعترف ضمنيًا باستقلالية المقرر الخاص وتعامله كخصم سياسي أو أمني، وليس كخبير محايد تعمل تقاريره ضمن الأطر الأممية المتعارف عليها.

ومن جهة أخرى، يُهدد هذا الإجراء مبدأ التعاون الدولي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. فالمادة 105 من الميثاق – جنبًا إلى جنب مع اتفاقية 1946 – أقرت بوجوب تمتع مسؤولي الأمم المتحدة وخبرائها بالامتيازات الضرورية لأداء وظائفهم باستقلالية وحيادية.

تنص اتفاقية امتيازات وحصانات الوكالات المتخصصة لعام 1947 على تمتع خبراء المنظمات التابعة للأمم المتحدة، كمجلس حقوق الإنسان، بالحصانة من الإجراءات القانونية أثناء تأدية مهامهم الدولية.

إن تحدي هذه الضمانات القانونية عبر عقوبات أحادية يبعث برسالة واضحة مفادها أن الدولة مستعدة لتجاوز القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية الراسخة إذا تعارضت آراء الخبير الأممي مع سياساتها ومصالحها.

وعليه، يُعد فرض العقوبات هنا انتهاكًا لمبدأ أساسي في القانون الدولي يتمثل بضرورة احترام الدول لالتزاماتها التعاقدية تجاه المنظمة الدولية وخبرائها، ويشكل أيضًا طعنًا سافرًا في منظومة سيادة القانون على المستوى العالمي.

سابقة تهز الثوابت: هل تحطمت حصانة المقررين الأمميين؟

يصف العديد من المحللين واقعة فرض عقوبات أمريكية على المقررة الأممية بأنها حدث غير مسبوق. فخلال العقود الماضية، لم تُسجل حالات معروفة عمدت فيها دولة إلى إدراج مقرر خاص أممي في قائمة عقوبات رسمية.

وقد أكدت الأمم المتحدة نفسها أن هذا الإجراء يمثل سابقة خطيرة يجب ألا تتكرر. ومع ذلك، يمكن الإشارة إلى بعض الحوادث ذات الصلة التي تعكس توترًا بين دول ومقرري الأمم المتحدة، حتى لو لم تصل حد العقوبات المالية المباشرة.

على سبيل المثال، كثيرًا ما رفضت بعض الدول السماح لمقرري الأمم المتحدة بدخول أراضيها أو التعاون معهم، كنوع من الإعاقة غير المباشرة لعملهم وإعاقة وصولهم إلى المعلومات.

إسرائيل – على سبيل المثال – كثيرًا ما اتهمت المقررين المكلفين بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالانحياز، ورفضت استقبالهم أو التعاون معهم بأي شكل من الأشكال.

وفي حالة فرانشيسكا ألبانيزي نفسها، قبل فرض العقوبات الأمريكية، أعلنت إسرائيل في مطلع عام 2024 حظر دخولها إلى الأراضي المحتلة، بل ودعت علنًا إلى إنهاء ولايتها عقب تصريحات لها اعتُبرت غير مقبولة من جانب الحكومة الإسرائيلية.

مثل هذا الحظر مثّل محاولة لعزل المقررة وشل قدرتها على جمع المعلومات ميدانيًا، ولكنه بقي ضمن نطاق الإجراءات الدبلوماسية الاعتيادية (كعدم إصدار تأشيرة دخول) ولم يصل إلى تجريمها أو معاقبتها ماليًا.

من السوابق الأخرى الجديرة بالذكر رفض روسيا التعاون مع المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في روسيا. فعندما عيّن مجلس حقوق الإنسان الخبيرة ماريانا كاتزاروفا لمتابعة الانتهاكات في روسيا، أعلنت موسكو عدم اعترافها بالولاية ومنعتها من زيارة البلاد.

وعلى الرغم من حدة هذا الموقف، امتنعت روسيا حتى الآن عن اتخاذ خطوة إضافية بمعاقبة المقررة بشكل مباشر. ولكنّ مراقبين حذروا من أن الخطوة الأميركية قد "تفتح الأبواب" أمام دول أخرى لتحذو حذوها، ما ينذر بتفاقم ظاهرة الانتقام من المقررين الخاصين على مستوى عالمي.

ويعتبر خبراء في الأمم المتحدة أن إقدام أي دولة على معاقبة خبير أممي مستقل هو هجوم على منظومة الأمم المتحدة ككل، لأنه يقوّض الآلية التي أرستها الدول ذاتها لمساءلة بعضها البعض في مجال حقوق الإنسان.

وربما يمكن إيجاد شبيه جزئي لهذه الواقعة في سياسة الإدارة الأميركية السابقة (خلال ولاية الرئيس ترامب الأولى 2020) حين فرضت عقوبات على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية (مثل المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا)؛ بسبب تحقيقاتهم في جرائم حرب مزعومة، إذ جُمّدت أصولهم ومُنعوا من دخول الولايات المتحدة آنذاك.

وقد رأى كثيرون في تلك الخطوة استهدافًا صريحًا لاستقلال القضاء الدولي. وفي السيناريو الحالي (عودة إدارة ترامب للسلطة 2025)، توسعت تلك السياسة لتشمل معاقبة خبراء أمميين مثل ألبانيزي.

وتشير التقارير إلى أن الإدارة الأميركية ذاتها التي عاقبت ألبانيزي كانت قد فرضت قبلها بشهر عقوبات على عدد من قضاة المحكمة الجنائية الدولية إثر إصدار المحكمة مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ومسؤولين آخرين.

هذه الخطوات تعكس نهجًا متصاعدًا يعتبره المنتقدون "حربًا قانونية" أو Lawfare تستخدمها دولة قوية لحماية حلفائها من المحاسبة، عبر تجريم من يسعى لتحقيق تلك المحاسبة دوليًا.

وعلى الرغم من الاختلاف البنيوي بين محكمة دولية ومقرري الأمم المتحدة، فإن الفلسفة واحدة: استخدام العقوبات الوطنية سلاحًا لعرقلة أدوات العدالة الدولية.

ورغم وجود أمثلة سابقة على محاولات تعطيل عمل المقررين أو تهديدهم من قبل دول منزعجة من تقاريرهم، فإن تحويل هذا الرفض أو الإحباط إلى عقوبات اقتصادية وقانونية رسمية ضد خبير أممي يمارس مهامه ضمن ولايته هو تطور جديد ومقلق للغاية.

إنه تجاوز واضح لحدود الاحتجاج الدبلوماسي التقليدي إلى مستوى الإجراء العقابي الانتقامي المباشر. ولهذا السبب، اعتُبرت العقوبات المفروضة على ألبانيزي سابقة غير معهودة في تاريخ الأمم المتحدة، وحذّرت المنظمة الدولية من خطورتها وانعكاساتها السلبية على استقلالية نظامها الحقوقي.

يتضح أن فاعلية النظام الأممي في حماية المقررين مرهونة بتعاون الدول واحترامها للقانون الدولي. فعندما تنتهك إحدى الدول – خصوصًا إن كانت كبرى وذات نفوذ – تلك الضوابط، لا تستطيع الأمم المتحدة إجبارها بالقوة على التراجع، بل تعتمد على الضغط الدبلوماسي والإعلامي ومكانة الدولة المعنوية.

في حالة ألبانيزي، أحدثت الإدانة الأممية والإحراج الدولي بعض التأثير؛ فقد وجدت واشنطن نفسها معزولة في هذا الموقف وتحت وابل من الانتقادات من الحلفاء والخصوم على حد سواء.

وهذا بحد ذاته جزء من الحماية المعنوية التي يوفرها النظام الأممي لمقرريه: أي جعل ثمن استهدافهم سياسيًا ومعنويًا عاليًا بما يكفي لردع الدول الأخرى عن تكرار الأمر.

في ضوء هذه السابقة الخطيرة، تبرز حاجة ملحّة لتحصين منظومة المقررين الأمميين من التسييس والانتقام، من خلال إنشاء آليات حماية مؤسسية أكثر صلابة، وضمان تضامن دولي فاعل يُجرّم استهداف الخبراء الحقوقيين بسبب مواقفهم وآرائهم.

كما ينبغي على مجلس حقوق الإنسان تطوير بروتوكول طارئ للرد على مثل هذه الحالات، بما يشمل تفعيل المساءلة المعنوية للدول المنتهِكة. فاستمرار الصمت أو الاكتفاء بالإدانة اللفظية يُهدّد بانهيار جدار الحماية الأخير لمنظومة حقوق الإنسان، ويُغري دولًا أخرى بتكرار الفعل، ما يضع النظام الدولي برمّته أمام مفترق وجودي حاسم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة